الثقافة والمثقف والسلطة
بقلم الدكتورة نجلاء صالح
الثقافة نتاج إنساني تاريخي، فهي هي عبارة عن مجموعة من القيّم، وأنماط السلوك، والمفاهيم والتصورات والعقائد والرؤى حضارية، ونتاجات علم وأدب وفن، وأشكال علاقات فهي إذن رديفة للوجود الإنساني. إنها المعرفة المشتبكة مع واقع تحاول استشكافه وفضحه وتهديده. وأن تكون معرفة لا تساوم ولا تتراجع ، ولا تنعزل، بل تقف بالمرصاد لتسهم بولادة الجديد الذي عسرت ولادته، وموت الذي لابد من موته. أما الثقافة المتواطئة فلا يمكن إلا أن تكون ميتة سلفاً.
لمدة طويلة بقي الفراغ بين المثقف المؤدلج والواقع متمثلاً بالمسافة بين شعاراته الزاعقة والحقائق الفاعلة على الأرض. كانت تلك فجوة عمياء قادت إلى الخسارات والإحباطات المتلاحقة والهزائم والخراب.. أن تحلم بأفق أوسع شيء، وأن تطلب عملياً من الواقع أكثر مما يمكن أن يعطيه لك شيء آخر.. كانت الشعارات الرنانة تسلب من حامليها القدرة على التحليل العلمي والرؤية الصحيحة، وكان الواقع الذي كانوا يحاولون جاهدين إرغامه لإدخاله في عنق زجاجة إيديولوجياتهم يسخر منهم، ولّما صدموا بالفشل في نهاية الأمر اكتشفوا أنهم أخّروا حركة الواقع بدل أن يجعلوها تتقدم.
إن المثقف هو الكائن الذي يعرف.. إنه يعرف أكثر مما يجب على وفق مقاييس السلطات السائدة، ولهذا فهو يقف في الجانب الآخر/ الضد. فإذا كانت السلطة هي من تضع الحدود فإن المثقف هو من يخترق هذه الحدود. من هنا يكون المثقف هو الكائن الذي ترتاب فيه السلطات بأشكالها، وتحسب له حساباً، لأنه يعرف أكثر، ولأنه يتخذ الجهة الضد من السلطات، ولأنه يخرق موجباتها.
معايير ثلاثة إذن تميز المثقف عن غيره، وتمنحه امتياز التموضع اجتماعياً وتاريخياً في سياق الفاعلية من أجل عالم آخر. فإن من يتمترس في ضمن خندق أية سلطة مؤسساتية قائمة، ومن يفكر وينتج في ضمن حدود ما تفرضه هذه السلطة، ويقيد معرفته بالشكل الذي لا تتجاوز فيه هذه المعرفة نطاق المحرمات فهو ليس مثقفاً على وفق المفهوم الذي نراه في هذا المقام.
إن المثقف وجود متوتر بين العقل والواقع.. بين السؤال وجوابه الذي لا شك يحوي سؤالاً آخر.. بين المعلوم والمجهول.. بين ما هو قائم وما هو محتمل وممكن.. بين الحاضر والمستقبل.