عالم الفن

غزة الشعر والجمال المتنوع أيضاً

بقلم ميادة الفارس
(شاعرة وصحفية من سورية مقيمة في ألمانيا)
غزة “أرض القصيدة”؟
نعرف غزة ضحية الإحتلال والحصار والحروب والعدوان والصراعات الداخلية والفقر.. بل ونعرفها “غزة العزة” والمقاومة والصمود والإنتصار.. ولكن غزة القصيدة؟ من أية قبعة ساحر سوداء خرج هذا الأرنب الأبيض؟
الدليل في يدي هنا. وصلني عن طريق صديق مقيم في لندن وشرعت في القراءة على الفور.
عشرات القصائد من أقلام سبعة عشر شاعر وشاعرة من قطاع غزة المحاصر. “قصيدة غزة الطروادية”، كما يصفها الناقد السوري صبحي حديدي على الغلاف الأخير للكتاب. القصيدة التي كان الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش يطمح لقرائتها وها هي الآن بين دفتي هذه الأنطولوجيا الشعرية من اختيار وتقديم الشاعر والناقد محمد تيسير والصادرة عن “المؤسة العربية للدراسات والنشر”
وإذا كان الشعر غائباً عن غزة التي نعرف فإن غزة التي نعرف ليست غائبة أبداً عن فضاء الشعر:
“بطني ينتفخ ويتكور/ أنا أحمل في جسدي قذيفة حرب” تكتب أمل أبو قمر.
“من يُطفئ الحرب فيّ/ ويقرضني بعضاً من النسيان” تكتب منى المصدر.
“عدّني أن نثمل قبل الحرب وفي الحرب وبعد الحرب بحربين منفردين كلٌ منهما في اتجاه مغاير/ عدني أن نرقص متحدين أنا في الهزيمة وأنت في ظلها” هذه أبيات من أدهم العقاد.
“هناك القصف والحرب والحصار/ هنا عدم التفاهم، الريبة والتشكيك/ وهناك موت بطي، يجيء ولا يجيء/ خمسون طبقة من الجليد/ وفوقها خمسون” مروة عطيّة.
ويكتب أحمد السوق “الآن تحت القصف/ سنكون أبطالاً/ ولكن عندما تنتهي الحرب/ سأدعوك الى حفلة راقصة/ وسنكون وحيديّن/ لن تصطحبنا قذيفة مباغتة/ ولت تفجعنا لوثة الطائرة”.
نصوص هاشم شلولة هي الأنضج في هذه المجموعة. كل عبارة منها احتفاء جمالي بالشعر. وأيضاً محمد تيسير: “في رثاء المواعيد الضالة/ تنكمش السماوات في كف الحسرة/ كم سيبكينا جهل الحسرات/ بعلم الأرصفة/ واللجوء للطرق المضيئة”
ولا حدود لما يثير الغبطة: الشاعرات أكثر من الشعراء ولكل شاعرة صوتها المميزً. ولا تنقصهن الجسارة أيضاً. هذه هبة صبري تحيّي المارجوانا “التي التقطتني حينما لم يلتقطني أحد/ وأباحت لي الرغبة/ حينما لم يرغبني أحد ..” وأيضاً روان حسين “سأرتقي بك حيث النجوم الساخرة/ كما تفعل المارجوانا بمبتدئ/ عاشق لم يتخلص من إدمان تلك الشبقة بعد”
وهناك الكثير والمزيد. قصيدة محمد شقفة “توقيع” مثلاً، “نحن البؤساء الموقعين/ ها هنا/ على الصورة المعلقة/ في كتبنا القديمة/ وما كنا حفظناه” وقصيدة بسمان الديراني “راية الغيظ” وقصيدة محمد عوض “قولي لهم هنا ينام الحب”.
قصائد كل الشاعرات، أمل أبو قمر ومنى المصدر وفاطمة أحمد ومروة عطيّة وهبة صبري وروان حسين ويسرى السحار وإيلينا أحمد ووسام الطويل، تبعث الأمل في روح القارئة ولكن قصائد ضحى الكلحوت كان فيها من الغواية ما جعلني أقرأها مرتين. بل وأريد أن أقرأها مرة ثالثة أيضاً.
كل هذا الشعر من غزة، أين كان مودعاً؟ وأين كان الشعراء مختبئين؟
الإختباء في غزة طريقة يومية للبقاء على قيد الحياة. ولكن هذا الشعر الذي يتراوح ما بين الجيد والمدهش وما بين حامل الوعود الكبيرة والمتحقق النضوج يُعني بأن العدوان والحصار والقمع لم يُلغوا الروح الفنانة في غزة ولم يقلصوا الناس إلى مجرد أشخاص تقاوم من أجل البقاء.
من الواضح أن الشعر لم يغب عن غزة يوماً. النضج والتنوع اللتان تنمان عنه هذه القصائد يبيّن أن الشعر كان يُقرأ ويُكتب في كل وقت وأي وقت. ولكن المهتمين بغزة تجاهلوا الشعر وإكتفوا بالصوّر التي تبثها شاشات الفضائيات وتصريحات دعاة الحرب والقتل. ولكن للقصائد أجنحة وهي تطير في السماء فوق أسوار الحصار وطائرات العدوان والفضائيات التي تعتاش على أخبار الموت والدمار.
غزة أرض القصيدة؟ بل أرض القصيدة الجميلة أيضا

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى